خط شريف كلخانة
في عام 1839م أدرك السلطان العثماني عبد المجيد، وبعض أركان دولته، حاجة الدولة العثمانية الماسة للإصلاح. كان السلطان قد وفق بعدد من المسؤولين الذين يعون مسؤولياتهم وخاصة علي باشا الذي أصبح صدرًا أعظم (رئيس وزراء )، وفؤاد باشا الذي تسلم زمام الأمور في وزارة الخارجية، أصبح هذان الرجلان على قناعة تامة بأن أجهزة الدولة المختلفة قد بلغت من الترهل درجة أصبح الإصلاح معها مطلباً مهماً، ولقد حظيا بدعم سلطان مثقف، أدرك ما أدركاه، وفعّل ما أرادا القيام به، ولذلك صدر مرسوم سلطاني في هذا العام عرف بـ ( خط شريف كلخانة )، ويعني مرسوم قصر الزهور السلطاني، نسبة الى القصر الذي يقيم فيه السلطان العثماني
تطرق المرسوم الى ضرورة إصلاح كافة أجهزة الدولة، وخاصة الأجهزة الإدارية والمالية والتعليم، وكان المرسوم مقدمة لحقبة من الإصلاحات استمرت بين المد والجزر حتى نهاية الدولة. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واكبت تنفيذ الوعود الإصلاحية التي جاءت في المرسوم وخاصة في مجال التعليم ـ والذي كان تعليماً دينيا ًبالكامل ويسيطرعليه رجال الدين في الدولة ـ وجهود الإصلاحيين في جعل هذا الجهاز المهم تحت إشراف الحكومة المباشر الأمر الذي اثر ايجابياً على مستوى التعليم، حيث لم تنتهي سنة 1846م، الاّ وقد تضاعفت أعداد المدارس في الدولة بشكل ملحوظ، وفتحت كذلك مدارس عليا، وتم تأسيس الجامعة العثمانية.
قام السلطان عبدالمجيد في عام 1856م، بتشجيع من علي باشا وفؤاد باشا وغيرهما، بإصدار مرسوم إصلاحي آخر عرف بـ ( الخط الهمايوني )، أو المرسوم السلطاني، أكد فيه ما جاء في مرسوم سنة 1839م، وزاد عليه ضرورة معاملة جميع سكان الدولة في الحقوق والواجبات بالتساوي ولقد ووجه هذا المرسوم بعاصفة من الإعتراض، وخاصة من رجال الدين والعلماء والفئات المتعصبة بحجة أن هذه الإصلاحات والمطالبات بالحرية وخاصة للصحافة وبالدستور والبرلمان، فضلاً عن كونها مقتبسة من الأنظمة الأوروبية، فإنها لم تصدر الاّ بسبب الضغوط البريطانية والفرنسية على الدولة.
ما أشبه الليلة بالبارحة!! أيعقل أننا في نهاية عام 2004م، نقف حيث وقف العثمانيون قبل أكثر من 165 سنة؟، مطالب الإصلاح لدينا تكاد تكون صورة كربونية من مطالبهم، وأسباب الإعتراض لديهم كأنما يرددها محاربوا الإصلاح أيامنا هذه.
إصلاح الإدارة والشؤون المالية والتعليم أمور فطن لها العثمانيين منذ اوائل القرن التاسع عشر، وإمتلكوا الشجاعة التي نفتقدها للإ عتراف بحاجتهم للإصلاح وقاموا بخطوات فعليّة ومؤثرة فيه، فماذا فعلنا نحن تجاه المسؤوليات الملقاة على عواتقنا.
إنني في خشية من أن يقودنا صراعنا بين مؤيد للإصلاح الشامل كضرورة، وبين معارض له لأسباب مختلفة لكن أهمها المحافظة على المصالح الشخصية، لنصل لمرحلة يصبح معها الإصلاح كخطوات فعليّة متعذراً، ونحن الذين نضيّع الوقت في التنظير لأهمية الإصلاح وخطورته
قد يتساءل البعض، أولم يبدأ لدينا الإصلاح بالفعل؟؟، نعم لقد بدأ، لكنه لايزال يحبو، ووتيرته غير كافية دون معوقات، فكيف ستكون نتائجه في ظل المعارضة الضارية بحجج عديدة أهمها أنه تحقيق لمطالب وضغوط أجنبية، تلك الذريعة التي كان الرجعيون يحتجون بها في منتصف القرن التاسع عشر!!.
إذا كانت الظروف الدولية قد خدمت العثمانيون لقرون عديدة، حيث كانوا سادة العالم لحوالي 350 سنة، ولم تتداعى الدولة وتترهل أجهزتها المختلفة إلاّ بعد مرور 400 سنة تقريباً، فإن ظروف العالم المتسارعة في عصرنا هذا، قد كشفت عن عوار أجهزتنا الادارية والمالية والتعليمية وترهلها بشكل مفزع في عقودٍ قليلة، وإذا كان الوقت قد أسعف العثمانيون، فإنه الآن أكبر أعداء الإصلاح لدينا إن لم نحسن إستغلاله
