كانت مدينة الرملة -والتي تبعد أقل من خمسة أكيال مترية عن مطار تل أبيب الدولي- مرة عاصمة لفلسطين . لكنها اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي مدينة خربة . أسس الرملة الأمير الأموي سليمان بن عبد الملك (وقد أصبح خليفة فيما بعد) في بداية القرن الثامن الميلادي.
والرملة – كما هو واضح من اسمها- مشتقة من كلمة (رمل) ، وكانت قد بنيت على أرض رملية محاذية لمدينة اللد (ليدا) القديمة ، ومن الأخيرة أخذت الرملةُ سكانها ومواد بنائها. وقد توسعت مدينة الرملة وازدهرت سريعاً لا لتصبح أكبر مدينة بفلسطين فحسب، بل لتصبح عاصمتها ، حيث بلغ عدد سكانها أكثر من 25 ألف نسمة . ولمدة 300 سنة لم تكن الرملة أكبر مدينة بفلسطين فحسب وإنما واحدة من المدن الرئيسية في العالم الإسلامي ، تضاهي مدناً كبغداد ، والقاهرة ، ودمشق . ويرجع ازدهار الرملة وغناها إلى صناعة صباغة الأنسجة والتجارة العالمية ، وهذا راجع جزئياً إلى موقعها المهم بين تقاطع طريقين تجاريين مفضَّلين : شمال-جنوب (ماراً بماريس) ، وشرق-غرب من يافا إلى القدس .
لكن قُدِّر لهذه المدينة أن تنقلب أحوالها في القرن الحادي عشر الميلادي بسبب سلسلة من النوازل الطبيعية والبشرية التي جعلت المدينة مجرد ظلال بالمقارنة مع حالها التي كانت عليها . أول هذه النوازل التي ألمت بالرملة كان زلزال عام 1033م (424هـ) الذي دمر أكثر من ثلثي المدينة وخلف آلافاً من المشردين . ثم تبع ذلك زلزالان في عامي 1068 (460هـ) و1070م (462هـ) على التوالي ، وكذلك كانت للمناوشات المختلفة بين الفاطميين وأعدائهم آثار مزلزلة على المدينة ، إلى أن جاء الصليبيون عام 1099م (492 هـ) فوجدوا أبواب المدينة مفتوحة وفارغة من أهلها ، حيث فروا منها . وعندما استقر الصليبيون في المدينة ، بنوا في أحد أطرافها قلعة وكنيسة ، ومع مرور الوقت أصبحت هذه المنطقة مركزاً للمدينة بعد أن صغر حجمها كثيراً . وقد أصاب المدينة بعض التحسن عندما عادت إلى حظيرة الإسلام في عهد المماليك (1260 - 1516) / (658 - 921 هـ) ، حيث بنيت منارة لمسجدها الأبيض ، والتي –إلى هذا اليوم- تبدو واضحة ومهيمنة على المباني من حولها. وعلى كل حال، فالمدينة لم تستطع أبداً أن تعود إلى ما كانت عليه من حجمها الأول ، ولذلك ، فإن المسجد الأبيض الذي كان قائماً في وسطها في القرن الثامن الميلادي ، وجد نفسه الآن خارجها .
كانت مدينة الرملة في أوج ازدهارها تغطي مساحة 2 كليومتر مربع ، وهذه حقيقة تؤكدها الحفريات الحديثة التي استطاعت أن تكشف عن المدينة القديمة لمساحة 2 كيلومتر مربع . واستناداً لمؤرخ عربي معاصر ، فإن المدينة احتوت على العديد من الأسواق والمساجد والبيوت كلها بنيت بالحجر الكلسي الأبيض والرخام . وقد بينت الحفريات لأحد أسواق المدينة كيف أن محلاته ودكاكينه بنيت على شكل مستطيلات أمام المسجد الأبيض ، وكشفت أيضاً عن خزانة من العملات الذهبية ترجع إلى القرن العاشر الميلادي وتحمل نقش شجرة النخيل ، رمز سكة الرملة .
وقد كشف الحفريات أيضاً عن خوابي مستطيلة الشكل كبيرة تحتوي على آثار صبغة حمراء اللون كانت تستعمل لصبغ الأقمشة ، والتي كانت مصدر أكثر ثروة المدينة. ودلائل أخرى على النشاطات الصناعية في المدينة وجدت في بقايا أربعة محلات للخزف على الأقل، وتحتوي على قوالب مصابيح، وهروات وصوانٍ تحتوي على طبقة عازلة لامعة وملونة. ويبدو ازدهار المدينة واضح أيضاً من الهندسة المعمارية فيها، حيث تظهر مجموعة من النقوش الهندسية على البيوت.
كل هذا يجعلنا نتعجب عن سبب تدهور مدينة الرملة بهذا الشكل السريع والذي يوحي أن المدينة قد هجرت في نهاية القرن الحادي عشر! لعل أحد أسباب هذا التدهور هو التجزئة السياسية لتلك الحقبة التاريخية حيث جعلتها هدفاً بين عدة جيوش متصارعة. وسبب آخر قد يشير إلى العديد من الزلازل التي ذكرناها، لكن كلا هذين العاملين يجب أن يكونا قد أثَّرا على بقية المدن في المنطقة التي استطاعت أن تسترد وضعها الأول. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن تدهور المدينة على الأرجح هو نتيجة اعتمادها على نظام مائي اصطناعي هش.
ليس لمدينة الرملة مصدر طبيعي للماء، وكانت تستمد ماءها عن طريق شبكة من القنوات، كان أهمها قناة بنت الكافر، والتي تشبه نهر بردى الذي يجري في وسط مدينة دمشق. وقد اكتشفت آثار لهذه القناة في الحقول الواقعة في شرق وجنوب المدينة وهي تمتد لأكثر من 15 كيلومتراً. وهذه القناة تزود بالماء سلسلة من الأحواض ، حيث أن أشهرها كان حوض أو بركة العنازية ، والتي ما زالت موجودة إلى الآن في الناحية الشمالية من المدينة القديمة. وهذه البركة تحوي نقوشاً محفورة في الجص يرجع تاريخها إلى عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (786 - 809 م) / (169 - 193 هـ) . هذه البركة مغطاة بستة أعمدة ذات قناطر معتمدة على أرصفة مصلبة ، وهي مهمة للأقواس القوطية المحدبة ، كما هو معروف من الاستعمالات السابقة والحالية .
من الواضح أن مثل هذا النظام المائي المحكم كان مكلفاً ، وأنه كان يتطلب جواً سياسياً مستقراً ، مع استثمار الدولة في متابعة العناية به . ولكن ، وبمجيء القرن الحادي عشر الميلادي ، لم تعد هذه هي الحال . لقد وصف الرحالة الفارسي ناصر خسرو (1003 - 1060م) / (393 - 451 هـ) كيف أن بيوت الرملة كان لها ماؤها الخاص بها ، لأنه لم يكن هناك مصدر مائي يعتمد عليه . ومما يؤكد الحالة المتردية لبرك الماء العامة في الرملة هو ما يرويه الرحالة الفرنسي جونفيل في القرن الثالث عشر الميلادي ، عندما وصف المناوشات بين الصليبيين والمسلمين قرب الرملة عندما وقع رجل وخيول ثلاثة في إحدى البرك المهملة .
إن مسألة ازدهار الرملة السريع وترديها ربما يحمل في طياته مضامين لسكان المنطقة الحاليين الذين هم أيضاً يعتمدون على نظام مائي غير طبيعي للاستمرار في حياتهم.